نواصل في هذا التحذير تقديم البحوث العلمية الحديثية للقارئ الكريم حتى يقف على حقيقة هذه القصة التي اشتهرت على ألسنة الخطباء والوعاظ والقصاص، وإلى القارئ الكريم بيان حقيقة هذه القصة
أولاً المتن
«لما فتح عمرو بن العاص مصر أتى أهلها إلى عمرو بن العاص حين دخل بؤونة من أشهر العجم، فقالوا له أيها الأمير، إن لنيلنا هذا سُنَّة لا يجري إلا بها، فقال لهم وما ذاك؟ قالوا إنه إذا كان لثنتي عشرة ليلة تخلو من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر بين أبويها فأرضينا أبويها وجعلنا عليها من الحُليّ والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها في هذا النيل، فيجري
فقال لهم عمرو إن هذا لا يكون في الإسلام، وإن الإسلام يهدم ما قبله، فأقاموا بؤونة وَأَبِيْبَ ومِسْرَى لا يجري قليلاً ولا كثيرًا حتى هموا بالجلاء، فلما رأى ذلك عمرو، كتب إلى عمر بن الخطاب بذلك، فكتب إليه عمر قد أصبتَ، إن الإسلام يهدم ما قبله، وقد بعثت إليك ببطاقة فألقها في داخل النيل إذا أتاك كتابي
فلما قدم الكتاب على عمرو، وفتح البطاقة، فإذا فيها «من عبد الله عمر أمير المؤمنين، إلى نيل أهل مصر، أما بعد فإن كنت تجري من قبلك فلا تجر، وإن كان الله الواحد القهار الذي يجريك فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك»
فعرّفهم عمرو بكتاب أمير المؤمنين والبطاقة، ثم ألقاها فألقى عمرو البطاقة في النيل قبل يوم الصليب بيوم، وقد تهيأ أهل مصر للجلاء والخروج منها لأنه لا يقوم بمصلحتهم فيها إلا النيل، فأصبحوا يوم الصليب وقد أجراه الله ستة عشر ذراعًا في ليلة، وقطع الله تلك السُّنَّةَ السوء عن أهل مصر»
ثانيًا التخريج
الخبر الذي جاءت به هذه القصة أخرجه ابن عبد الحكم، وهو عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم بن أعين بن الليث بن رافع هـ هـ في كتابه «فتوح مصر وأخبارها» ص حيث قال حدثنا عثمان بن صالح عن ابن لهيعة عن قيس بن الحجاج عن من حدثه قال «لما فتح عمرو بن العاص مصر أتى أهلها إليه » القصة
وأخرج هذه القصة أيضًا ابن قدامة وهو عبدالله بن أحمد بن محمد بن قدامة هـ هـ في كتابه «الرقة والبكاء» ص الخبر قال أخبرنا محمد بن عبد الباقي، أنبأنا أبو بكر أحمد بن زكريا الطرثيثي سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة، أنبأنا أبو القاسم هبة الله بن الحسن الطبري حدثنا محمد بن أبي بكر، حدثنا محمد بن مخلد، حدثنا محمد بن إسحاق، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني ابن لهيعة عن قيس بن الحجاج عن من حدثه قال
ثالثًا التحقيق
القصة واهية، وفيها علتان
الأولى عبد الله بن لهيعة
وهو عبد الله بن لهيعة بن عقبة بن فرعان بن ربيعة بن ثوبان الحضرمي أبو عبدالرحمن المصري
قال الإمام ابن حبان في «المجروحين»
أ «قد سبرت أخبار ابن لهيعة من رواية المتقدمين والمتأخرين عنه فرأيت التخليط في رواية المتأخرين عنه موجودًا، وما لا أصل له من رواية المتقدمين كثيرًا، فرجعت إلى الاعتبار فرأيته كان يدلس عن أقوام ضعفى عن أقوام رآهم ابن لهيعة ثقات فالتزقت تلك الموضوعات به»
ب ثم قال «وأما رواية المتأخرين عنه بعد احتراق كتبه ففيها مناكير كثيرة، وذاك أنه كان لا يبالي ما دفع إليه قراءة سواء كان من حديثه أو غير حديثه فوجب التنكب عن رواية المتقدمين عنه قبل احتراق كتبه لما فيه من الأخبار المدلّسة عن الضعفاء والمتروكين، ووجب ترك الاحتجاج برواية المتأخرين عنه بعد احتراق كتبه لما فيه مما ليس من حديثه»
لذلك أورده الحافظ ابن حجر في «طبقات المدلسين» المرتبة الخامسة رقم حيث قال «عبد الله بن لهيعة الحضرمي اختلط في آخر عمره، وكثرت عنه المناكير في روايته»
قلت وأقر قول الإمام ابن حبان «إنه كان يدلس عن الضعفاء»
والمرتبة الخامسة هي التي قال فيها الحافظ ابن حجر في «المقدمة» «من ضعف بأمر آخر سوى التدليس فحديثهم مردود ولو صرحوا بالسماع»
قلت
قول الإمام ابن حبان «أنه كان يدلس على الضعفاء» له أصل عملي نقله الحافظ ابن حجر في «التهذيب» عن الإمام أحمد بن حنبل قال «كتب يعني ابن لهيعة عن المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب وكان بعد يحدث بها عن عمرو بن شعيب»
قلت يتبين أن ابن لهيعة أسقط المثنى بن الصباح الذي كتب عنه وحدث بها عن عمرو بن شعيب، وبهذا ثبت أن ابن لهيعة كان يدلس عن الضعفاء والمتروكين، وذلك لأن المثنى بن الصباح متروك
فقد قال الإمام النسائي في كتابه «الضعفاء والمتروكين» ترجمة «المثنى بن الصباح متروك»
قلت وهذا المصطلح عند النسائي له معناه، فقد قال الحافظ ابن حجر في «شرح النخبة» ص «ولهذا كان مذهب النسائي أن لا يترك حديث الرجل حتى يجتمع الجميع على تركه» وبهذا تسقط القصة بتدليس ابن لهيعة وعنعنته وعدم التصريح بالسماع
أما عن القول بأن ابن لهيعة ضعف بأمر آخر سوى التدليس فإثبات ذلك يتبين من
أ قال أمير المؤمنين في الحديث الإمام البخاري في كتابه «الضعفاء الصغير» ترجمة «عبد الله بن لهيعة ويقال ابن عقبة أبو عبد الرحمن الحضرمي ويقال الغافقي، قاضي مصر حدثنا محمد، حدثنا الحميدي عن يحيى بن سعيد أنه كان لا يراه شيئًا»
قلت ونقل هذا الحافظ ابن حجر في «التهذيب» ، ثم نقل عن الأئمة
وقال ابن المديني عن ابن مهدي «لا أحمل عن ابن لهيعة قليلاً ولا كثيرًا»
وقال عبد الكريم بن عبد الرحمن النسائي عن أبيه «ليس بثقة»
وقال ابن معين كان ضعيفًا لا يحتج بحديثه، كان من يشاء يقول له حديثًا
وقال ابن خرش «أحرقت كتبه فكان من جاء بشيء قرأه عليه حتى لو وضع أحد حديثًا وجاء به إليه قرأه عليه»
وقال الخطيب «فمن ثم كثرت المناكير في روايته لتساهله»
وقال الجوزجاني «لا يوقف على حديثه ولا ينبغي أن يحتج به، ولا يغتر بروايته»
وقال الإمام ابن عدي في «الكامل» «إن ابن لهيعة له أحاديث منكرات يطول ذكرها إذا ذكرناها» اهـ
ملحوظة هامة
البعض قد يغفل عن قول الإمام ابن حبان في أن ابن لهيعة من المدلسين ورمي بالتدليس عن الضعفاء والمتروكين، ونقله الحافظ في «طبقات المدلسين» كما بينا آنفًا، ونقله في «التهذيب» ، ويغفل أيضًا عن تجريح هؤلاء الأئمة الأعلام الذي أوردناه آنفًا
ويتعلق بما نقله الحافظ ابن حجر في «التهذيب» عن عبد الغني بن سعيد الأزدي قال «إذا روى العبادلة عن ابن لهيعة فهو صحيح ابن المبارك، وابن وهب والمقري ، وذكر الساجي وغيره مثله
وقلت وحتى هذا القول لا ينطبق على هذا الخبر الذي جاءت به هذه القصة الواهية المنكرة
أ فالعبادلة المذكورون في هذا القول هم عبد الله بن المبارك، وعبد الله بن وهب، وعبدالله بن يزيد المُقري، كما هو مبين في «تهذيب الكمال» في الذين رووا عن ابن لهيعة
ب وبالرجوع إلى طرق القصة من التخريج الذي أوردناه آنفًا نجد في الطريق الذي أخرجه ابن عبد الحكم أن الذي روى عن ابن لهيعة هو عثمان بن صالح
ونجد في الطريق الذي أخرجه ابن قدامة أن الذي روى عن ابن لهيعة هو عبد الله بن صالح المصري
بهذا يتبين خلو الطريقين من العبادلة الثلاثة ابن المبارك، وابن وهب، والمقري، فالقصة بتطبيق هذا القول واهية أيضًا كما في «الضعفاء والمتروكين» للدارقطني ترجمة ، حيث إن ابن لهيعة متروك إلا من رواية هؤلاء الثلاثة عنه
العلة الأخرى
من التخريج نجد أن خبر القصة أخرجه ابن عبد الحكم في «فتوح مصر»، وابن قدامة في «الرقة» من طريق ابن لهيعة عن قيس بن الحجاج عن من حدثه قال «لما فتح عمرو بن العاص مصر » القصة
نجد أن هذا الخبر فيه راوٍ مبهم لم يروه عن هذا المبهم المجهول إلا قيس بن الحجاج تفرد به ابن لهيعة
والحديث المبهم هو الحديث الذي فيه راوٍ لم يُصَرَّح باسمه قال البيقوني في منظومته «ومبهم ما فيه راوٍ لم يسم» اهـ
قال الحافظ في «شرح النخبة» «ولا يقبل حديث المُبهم ما لم يُسم لأن شرط قبول الخبر عدالة راويه ومن أبهم اسمه لا تعرف عينه فكيف تعرف عدالته؟» اهـ
قلت وهذه العلة تجعل هذا الخبر مردودًا وتزيد القصة وهنًا على وهن خاصة وأن قيس بن الحجاج من الطبقة السادسة كما في «التقريب» حيث قال الحافظ ابن حجر «قيس بن الحجاج الكلاعي المصري من السادسة»
وبيَّن الحافظ في المقدمة أن الطبقة السادسة «لم يثبت لهم بقاء أحد من الصحابة»
فقيس بن الحجاج لم ير عمرو بن العاص، ولم ير عمر بن الخطاب، وروى القصة عنهما عن طريق مبهم لم يسم
فالقصة باطلة واهية بالتدليس والطعن في ابن لهيعة ورواية شيخه عن مجهول مبهم فهي من منكرات ابن لهيعة التي يطول ذكرها
وإن تعجب فعجب أَن هذه القصة الواهية لم تقع لأي بلد على النيل إلا لمصر من المنبع إلى المصب
ولم يقع هذا الخبر لأي نهر في العالم إلا لنهر النيل وفي مصر بالذات بهذه القصة الواهية ومن حاول تأويل الخبر فهو غافل لأن السند تالف والأنهار سخرها الله لكل من على الأرض ليقرر توحيد الربوبية، وأن ذلك مستلزم أن لا يعبد إلا الله، وهو توحيد الألوهية
فيجعل الأول دليلاً على الثاني، قال الله تعالى أَمَّن جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ البَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ النمل
هذا ما وفقني الله إليه، وهو وحده من وراء القصد